تفسيرسورتى الفلق والناس -وجماليتهما البلاغية

 



 

قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق: 1-5].

سورة الفلق مكيَّة، وعدد آياتها خمس آيات، والغرض الأكبر منها: تعليم النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف يستعيذ بالله –سبحانه وتعالى- من شرور الحاقدين والجاحدين والسحرة والفاسقين عن أمر ربهم، كما بين له الأوقات التي يكثر فيها حدوث الشر، والأحوال التي يستر أفعال الشر من ورائها؛ لئلا يرمى فاعلوها بتبعاتها، فعلم الله نبيَّه هذه السورة ليتعوذ بها، وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتعوذ بهذه السورة وأختها وهي سورة الناس، ويأمر أصحابه بالتعوذ بهما، فكان التعوذ بهما من سنة المسلمين.

قوله: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ الأمر بالقول يقتضي المحافظة على هذه الألفاظ؛ لأنها التي عينها الله للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليتعوذ بها. والفلق: أصله شق الشيء عن الشيء، وفصل بعض عن بعض، والمراد به هنا: الصبح، وسُمِّى فلقا؛ لانفلاق الليل وانشقاقه عنه. وحقيقة الفلق: الانشقاق عن باطن شيء، واستعير هنا لظهور الصبح بعد ظلمة الليل.

والعوذ: اللجأ إلى شيء يقي من يلجأ إليه ما يخافه، يُقَال: (عاذ بفلان)، و(عاذ بحصن)، ويقال: (استعاذ)، إذا سأل غيره أن يعيذه.

وإضافة لفظ (الرب) إلى الفلق؛ لأنه يُنبئ عن النور عقيب الظلمة، والسعة بعد الضيق، والخفة بعد الكثافة. ورب الفلق: هو الله؛ لأنه الذي خلق أسباب ظهور الصبح، وتخصيص وصف الله بأنه رب الفلق دون وصف آخر؛ لأن شرًّا كثيرا يحدث في الليل من لصوص، وسباع، وذوات سموم، فوصف الله بالصفة التي فيها تمهيد للإجابة.

وقوله: ﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾، أي: من شر ما خلقه الله من الثقلين وغيرهما أيًّا كان. وأضاف الشر إلى خلقه من المطبوعين على إلحاق الأذى والضرر بغيرهم من الطيبين والصالحين من الناس. وحذف المفعول به في قوله: ﴿مَا خَلَقَ﴾، أي: من شر ما خلقه، حتى يكون شاملا لشرور الخلق أجمعين، فالحذف جاء ليدل على الشمول والعموم.

وقوله: ﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ أعيدت كلمة (من شر) بعد حرف العطف في هذه الجملة، وفي الجملتين المعطوفتين عليها مع أن حرف العطف مغن عن إعادة العامل قصدا لتأكيد الدعاء، تعرضًا للإجابة، وهذا من الابتهال فيناسبه الإطناب.

والغاسق: وصف الليل إذا اشتدت ظلمته، أو هو كل شر يعتري الإنسان على العموم. وأضاف الشر إلى هذا الوقع في قوله: (مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ)؛ لكثرة وقوع الشر فيه، فهو مجاز عقلي علاقته الظرفية باعتبار وقوع الشر فيه بأيدي المفسدين وأفعال الأشرار. والتنكير في قوله: (غاسق) يفيد التقليل وعدم العموم.

والغاسق إذا وقب، أي: الليل إذا أوغل في الظلمة. وقيَّد غاسق بإذا؛ لأن حدوث الشر في الليل يكثر إذا اشتد ظلامه، والتحرز فيه من وقوع الشر أصعب؛ لتحقق غلبة الغفلة والنوم على الناس فيه.

وقوله: ﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ هذا النوع الثاني من الأنواع الخاصة المعطوفة على العام من قوله: ﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ وعطف شر النفاثات في العقد على شر الليل لأن الليل وقت يتحين فيه السحرة إجراء شعوذتهم لئلا يطلع عليهم أحد.

والنفث: شبه النفخ يكون في الرقية ولا ريق معه، فإن كان معه ريق فهو الثقل. وعرف النفاثات بأل لبيان ما يلزم طبعهن من شرور.

والعقد: جمع عقدة، وهي: ما يعقده الساحر على وتر أو حبل أو شعر أو منديل وهو ينفث ويرقى.

والمراد بالنفاثات في العقد: النساء الساحرات، وإنما جيء بصفة المؤنث لأن الغالب عند العرب أن يتعاطى السحر النساء. وعبر بالجمع فيه؛ ليدل على أن الأمر في كل زمان لا يخلوا من جماعة من النساء ينفثن في عدة من العقد يسحرن بها للرجال حتى يلحق الضرر بهم وبأزواجهم وأخواتهم.

وإنما جعلت الاستعاذة من النفاثات لا من النفث؛ للإشارة إلى أن نفثهن في العقد ليس بشيء يجلب ضرا بذاته وإنما يجلب الضر النافثات وهن متعاطيات السحر؛ لأن الساحر يحرص على ألَّا يترك شيئا مما يحقق له ما يعمله لأجله إلا احتال على إيصاله إليه، فربما وضع له في طعامه أو شرابه عناصر مفسدة للعقل أو مهلكة بقصد أو بغير قصد.

وقوله: ﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ الحسد: إحساس نفساني مركب من استحسان نعمة في الغير مع تمني زوالها عنه؛ لأجل غيرة على اختصاص الغير بتلك الحالة أو على مشاركته الحاسد فيها. وقيد الحاسد بقوله: (إذا حسد) فحاق الضرر بالمحسود؛ لأن بعض الحسد لا أثر له رغم وجود الرغبة الجارفة في حصوله، فجاء القيد لذلك.

ونرى أن الله -عز وجل- ذكر شر المخلوقات في أول السورة ثم ختمها بالحسد؛ ليبين لنا أن الحسد من أخبث الطبائع وأسوأ الأفعال.

ومن فنون البديع في هذه السورة جاء السجع الذي في الآيتين الأوليين باتفاق الفاصلة في حرف القاف في: (الفلق) و (خلق)، أما الآيات الباقية فجاءت مرسلة غير مقيدة بسجع، وهذا نوع من التفنن في الأساليب.

***

  

   قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس: 1-6].

وسورة الناس هي إحدى المعوذتين، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعوَّذ بها وبسورة الفلق من الإنس والجن. وسُمِّيت بذلك؛ لأن لفظ الناس تكرر فيها خمس مرات. والقصد من هذه السورة التحذير والاحتراز عن وسوسة الشيطان ومن تعدِّي الإنس والجن.

ففي هذه السورة إرشاد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن يتعوذ بالله ربه من شر الوسواس الذي يحاول إفساد عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- وإفساد إرشاده الناس ويلقي في نفوس الناس الإعراض عن دعوته، ويتبع ذلك تعليم المسلمين التعوذ بذلك، فيكون لهم من هذا التعوذ ما هو حظهم من قابلية التعرض إلى الوسواس، ومع السلامة منه بمقدار مراتبهم في الزلفى.

بدأت السورة بفعل الأمر ﴿قُلْ﴾ والأمر هنا على الحقيقة؛ لأنه من الله -عز وجل- إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم-. والغرضُ البلاغي من هذا الأمر هو النُّصح والإرشاد والتوجيه. ومعنى ﴿أَعُوذُ﴾ أعتصم برب الناس، وعبر بصيغة المضارع الذي يدل على التجدُّد والاستمرار، وهذا يعني أنْ يظلَّ المسلم معتصمًا بربِّه، عائذًا بمولاه، محتميًا بحِماه، ملتجئًا إلى سيِّده القادر المقتدر، لا يَنْسَى ذلك لحظةً؛ حتى لا يفترسه الشيطان، فالاستيعاذ من الجن والشيطان مُتكرِّر متجدد في كل وقت وفي كل مكان.

وخص الناس بالذكر ﴿بِرَبِّ النَّاسِ﴾ مع أنه ربٌّ للمخلوقات جميعًا؛ لأن الاستعاذة وقعت من شر ما يُوسوس في صدورهم، وهم الناس دون غيرهم من المخلوقات، وناسب أن يستحضر المستعاذ إليه بعنوان أنه رب مَنْ يلقون الشر ومَنْ يُلْقَى إليهم؛ ليصرف هؤلاء ويدفع عن الآخرين، كما يقال لمولى العبد: يا مولى فلان كُفَّ عني عبدك.

وهذه الربوبية ليست كربوبية سائر الملاك لما يمتلكون، بل الله -عز وجل- يمتلك الناس امتلاكًا كاملا بسُلطانه القاهر، وقُدرته الشاملة، وقد وضح ذلك من إضافة لفظ الملك للناس في قوله: ﴿مَلِكِ النَّاسِ.

والربُّ قد يكون مالكًا -كما في الآية السابقة- وقد لا يكون، والملك لا يكون إلها وقد يكون، فبيَّن أن كلمة إله خاصة به دون سواه لا يُشاركه أحدٌ فيها، فقال: ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾ ليفيد هذا التخصيص.

ونلاحظ تكرار لفظ (الناس) في الآيات الثلاثة، دون الاكتفاء بضميره؛ لأن عطف البيان يقتضي الإظهار ليكون الاسم الْمُبَيِّن مستقلا بنفسه؛ لأن عطف البيان بمنزلة علم للاسم الْمُبَيَّن.

وأضاف كلمة (شر) إلى (الوسواس) وهو الشيطان في قوله: ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ؛ لبيان أن كل ما يصدر عن الشيطان الموسوس لا يخرج عن الشرِّ. والتعريف في ﴿الْوَسْوَاسِ تعريف الجنس.

والوسواس يشمل كل من يتكلم كلامًا خفيًّا من الناس وهم أصحاب المكائد والمؤامرات المقصود منها إلحاق الأذى من اغتيال نفوس أو سرقة أموال أو إغراء بالضلال والإعراض عن الهدى. ووصف الوسواس بـ ﴿الْخَنَّاسِ؛ لأنها صفة لازمة له لا تتخلف عنه أبدًا، فهو يخنس وتخفُّ حِدَّته إذا ذُكر اسمُ الله تعالى.

وعبَّر بالاسم الموصول في قوله: ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ وجعل الفعل المضارع ﴿يُوَسْوِسُ﴾ صلة له، والصلة لا بد أن تكون معلومة للمخاطب، فوسوسة الشيطان معلومة للمخاطب ولا يفتر الشيطان عنها إلا إذا واجهه المسلم بإيمان قوي وعزم أكيد. وعبَّر بالمضارع ليفيد تجدد الوسوسة وحدوثها واستمرارها.

وخص ﴿صُدُورِ النَّاسِ﴾ بالذكر ولم يقل: (في قلوب الناس)؛ لأن الصدر بمنزلة الوعاء للقلب، والقلب مضغة فيه، فوسوسة الشيطان تفيض بالقلب حتى يمتلئ، فتتدفق على كل ما يُحيط به. والمراد بالناس في هذه الآية هم أهل الصلاح والبر؛ لأن الوسوسة سواء أكانت من شيطان الإنس أو شيطان الجن فصاحبها مولع بها ويعمل على غواية كل من يعرض له.

وقوله: ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ عرَّف فيه كل من الجِنَّة والناس بأل؛ لأن كلا من فريق الجن وفريق الإنس معلوم عند جميع الخلق لا يجهل معناهما أحد بالفعل أو بالسماع. والعطف بين الجنة والناس يقتضي التغاير بينهما، رغم أن القصد من وسوستهما واحد، فشيطان الإنس يبدو في صورة الناصح الأمين الذي يريد المصلحة وهو يُروِّج للمعصية وتؤدي وسوسته إلى الخسران المبين، وشيطان الجن يُغري بالوسوسة فيُوقع الإنسان في الإثم والهلاك.

وحشد كلُّ هذه الصفات الثلاث: الربوبيَّة والملك والألوهيَّة من شَرِّ ذلك الوَسواس الخنَّاس؛ فيه كنايةٌ عن خُطورةِ ما يفعَلُه ذلك الخنَّاس في الخَلْقِ والبشَر، وما يُحدِثُه في الكون من غَوايةٍ وضَلالةٍ وتدميرٍ وهلاكٍ، ممَّا يستوجبُ معه الاستعاذة بصاحب الأمرِ والنَّهي في ذلك الكون؛ حيث لا يقدرُ على الشيطان إلا خالقُه وإلهه ومليكُه.

***

المصادر والمراجع:

-      تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور، تونس: الدار التونسية للنشر.

-      البلاغة القيمة لآية القرآن الكريم (جزء عم)، أ.د عبد القادر حسين، القاهرة: دار غريب للنشر والتوزيع.

                                            ***


إرسال تعليق

أحدث أقدم